حروب الجيل السادس وخطر النزاع بين الدول
recent
عاجل

حروب الجيل السادس وخطر النزاع بين الدول

تعد حروب الجيل الخامس أكثر من مجرد تطور تقليدي في حروب الجيل الرابع وما قبلها، فهي حرب بلا قيود تستخدم فيها الوسائل كافةلإجبار العدو على الرضوخ.


رتبط الصراعات التقليدية ارتباطاً وثيقاً باحتكار الإدارة النظامية في الدولة لاستخدام القوة المسلحة، ومع التطور أدى ذلك إلى ظهور بدائل واجبة وحتمية النفاذ وأطراف مسلحة قادرة على شن الحرب من دون هوادة. تلك الأطراف المسلحة التي هي تنظيمات ومجموعات تأخذ في هيئتها الشكل التنظيمي والزي العسكري والنمط المؤسسي إلا أنها لا تمت إلى الدولة بصلة، فضلاً عن اعتمادها على الأيديولوجيات التي تخترق الحدود القومية في بعض الأحيان، فتصبح حرة طليقة لذاتها وصاحبة تقرير مصيرها؛ وتختزل قرار الحرب لنفسها بعيداً من أوامر قيادات الدولة.

وتعد حروب الجيل الخامس أكثر من مجرد تطور تقليدي في حروب الجيل الرابع وما قبلها، فهي حرب بلا قيود تستخدم فيها الوسائل كافة لإجبار العدو على الرضوخ، ويتمثل أهمها في تأسيس تحالفات شبكية تضم جبهات وتنظيمات مسلحة، وقد تقدم على التعاون معها دول تشترك معها في الأيديولوجيات والاهتمامات والقوميات والمصالح ومشاريع السيطرة الواحدة، وهي تتبع مخططات معينة تشمل توظيف الأفراد باختلاف أفكارهم، ومن دون النظر في ماضيهم وحاضرهم، وهؤلاء يسعون لتحقيق هدف سياسي وعسكري واستراتيجي مشترك، مع النظر إلى سرعة انتشاره، وقد تتصف بالغموض حول طبيعة ووجودية الصراع، والأطراف القائمة عليها. هنا يجب أن نشير إلى أن الانتشار المسلح التقليدي للدول على أرض الواقع قد يدينها ويبيت نياتها والعواقب التي قد تتحملها في المستقبل كالعزل السياسي واللوجستي وفرض العقوبات الاقتصادية، أو الإدانة والاستنكار وقطع المعونات والمساعدات العسكرية والمعونات الطبية والغذائية عن شعوبها، أو غيرها من الإجراءات، في حين أن الأفراد والتنظيمات المسلحة قد لا يتعرضون لمثل هذه التبعات ولا يؤثر فيهم.

تعد النزاعات التي تشمل الجيوش الحديثة سمتاً رئيساً في تطوير آلة الحرب، فظهرت في الأفق حروب الجيل السادس، وذلك بالاقتران مع الحرب الإلكترونية، وحملات التضليل المتمثلة في الحرب المعلوماتية والهجمات المضادة للأقمار الصناعية. الهدف هو إخضاع الزخم المعلوماتي والبيانات، والاتصالات، وأجهزة الاستطلاع والاستخبارات، وأنظمة الأسلحة للسيطرة التشغيلية وتوجيهها لخدمة أغراضها. وقد تجمع أكثر الإجراءات ضرراً بين الأسلحة الموجهة بدقة والهجمات الإلكترونية لتعطيل أو تدمير الأهداف الحرجة.

 ويمكن أيضاً استخدام العمليات السيبرانية للتأثير السياسي من خلال تعطيل التمويل والطاقة والنقل والخدمات اللوجستية للتغلب على عملية صنع القرار للمدافعين، وخلق اضطراب مجتمعي وخلخلة بالبنية التحتية، وهذا ما اكتشفناه في النزاع الروسي الأوكراني، فقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لترجمة هذا النمط الجديد من الحروب؛ لتتجاوز في حد ذاتها الصراعات التقليدية المقيدة لتشمل في أهدافها الحرب السيبرانية والمعلوماتية، والحرب الاقتصادية والحرب الهجينة.

فتحت حروب الجيل السادس أفقاً غير اعتيادي لم نعرفه سابقاً، وذلك من خلال استخدام الأسلحة الذكية لتأليب المجتمع من خلال التوجيه والتجنيد الجزئي والكامل لشبكات الحوسبة الرقمية العالمية، وذلك من أجل خلخلة أوصال الفواعل وأعمدة الدولة المعادية وإلحاق الضرر بها عن بعد.

إن خطر النزاع الحاصل بين روسيا وأوكرانيا اليوم، لم يتمثل في العداوة بين الغريمين؛ فهي كانت وما زالت، لكن في طريقة توظيف الذكاء الصناعي لاستهداف النظم العسكرية والمؤسسات والأفراد وصناعة الشيطنة المعلوماتية وتزييف الحقائق لدحر الخسارة أو كسب تعاطف الموالين من أجل تحقيق أغراضها، وكذا في صناعة فصائل مدعومة من حكومات الدول لإدارة حروب كاملة عن بعد.

يمكننا أن نرى حروب الجيل السادس كشكل من أشكال التطور الإنساني الكبير، وليس بالمطلق، لكن تصل بنا إلى تصميم متكامل دقيق للفكرة التي نريد أن تقع فيها دولة أو فرد أو مجموعة، مستخدمين في ذلك وسائل متطورة جدّاً، وتعد الحرب الإلكترونية شكلاً من أشكال حروب الجيل السادس، وهي الأخطر على العالم من الحروب النووية وأسلحة الدمار الشامل إذا وظّفت لحرب خاطفة، وهي لا تتطلّب ميزانية ضخمة لتطوير الأسلحة وتحسينها، كما لا تسبقها أي مؤشّرات ما يصعّب كشفها والتنبؤ بها، فالنمط الافتراضي احتكره محاربو الحرب الإلكترونية والمتمثلة في جيش أوكرانيا الإلكتروني الذي فرض نفسه بقوة في قلب موازين النزاع بين روسيا وأوكرانيا الذي توقع (فلاديمير بوتين) أنه سينتهي بسحق الجانب الأوكراني في غضون أيام، حتى أثبتت الأيام أن لدى الجيش الأوكراني سلاحاً سرياً أقوى من مدافع الكلاشينكوف وصواريخ افنجارد وطائرات السوخوي، ألا وهو سلاح الحرب المعلوماتية والسيبرانية المتمثلة في جيش أوكرانيا الإلكتروني ITArmyUKR) IT ARMY OF UKRAINE).

 وفي هذا الموضع يقول فيكتور زورا، نائب رئيس الدولة لشؤون الأمن والاتصالات "أوكرانيا تخوض أول حرب افتراضية في العالم، وأعتقد أن الحرب الإلكترونية لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية الحرب التقليدية، وسنفعل كل ما في وسعنا".جيش أوكرانيا الإلكتروني هو مجموعة تخضع جزئياً لإشراف الحكومة الأوكرانية، لكن أعضاءه هم من يقررون ساعة الصفر في كل هجوم خاطف، ويضم هذا الجيش أكثر القراصنة والمخترقين "هاكرز" رعباً في تاريخ البنتستينج (Pentesting) وأكثرهم فتكاً بالأنظمة والشبكات الدولية من دون أن تشعر بهم قوات دفاع أمن شبكات المستهدف، ولكم أن تتخيلوا أن هؤلاء أصبح لديهم القدرة على احتلال الشبكات المحلية في روسيا والسيطرة على خوادم الأجهزة الأمنية الروسية وتسريب ملفات قيادات العسكريين داخل روسيا وخارجها وإمداد الدفاع الأوكراني بأدق المعلومات المتعلقة بتحركات الجيش الروسي المتوغل في أراضيها والكشف عن هوية كل أفراد العسكريين وتصفيتهم، ما جعل الرئيس الأوكراني (فلوديمير زيلينيسكي) يأمر قيادات وزارة الدفاع الأوكراني باستحداث سلاح طيران خاص بالطائرات المسيّرة لقنص الجنود الروس مثل صيده العصافير على شجر صنوبر في الربيع، وتدمير كل القطع الحربية المتوغلة في أنحاء البلاد، ما جعل الزحف صوب كييف أشبه بالمهمة الانتحارية.


يقول (هارف كزافيير) الخبير الأمني وعضو الجيش الإلكتروني الأوكراني، وأحد منفذي أخطر هجوم إلكتروني لعام 2022 على أنظمة خدمة يانديكس تاكسي Yandex Taxi، ما تسبّب بازدحام مروري هائل في موسكو وخسارة مالية كبيرة للشركة: "ينقسم القراصنة الذين انضموا إلى المجموعة إلى وحدات إلكترونية هجومية ودفاعية. في حين أن وحدة القراصنة الهجومية تساعد الجيش الأوكراني في إجراء عمليات تجسس رقمية ضد القوات الروسية، أما الوحدة الدفاعية فستقوم بالدفاع عن البنية التحتية مثل محطات الطاقة وأنظمة المياه وشبكات الكهرباء والاتصالات والسكك الحديد".

في 28 شباط/فبراير الماضي، اخترق الهاكرز الموقع الإلكتروني لبورصة موسكو Moscow) Exchange). أعلن جيش تكنولوجيا المعلومات أن الأمر تطلّب منهم خمس دقائق فقط للوصول إلى الموقع. وفي اليوم نفسه، اختراق سبيربنك (Sber bank،) أكبر بنك في روسيا وأوقع خسارة بالملايين. في اليوم التالي، شن جيش أوكرانيا الإلكتروني هجمات على مواقع روسية وبيلاروسية أخرى، بما في ذلك المواقع الحكومية لروسيا وبيلاروسيا، وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) ووكالة الأنباء البيلاروسية الحكومية (بيلتا)، من بين مواقع أخرى. لم تسلم وكالة الفضاء الروسية روسكوزموز (Roscosmos) هي الأخرى من مخالب قراصنة الجيش الإلكتروني، إضافة إلى ثمانمئة موقع روسي آخر، وذلك في الفترة الممتدة من 27 حزيران/يونيو إلى 10 تموز/يوليو، ونشروا رسائل تهنئة بيوم الدستور الأوكراني على تلك المواقع.

 وإلى جانب ذلك، أدت هجمات رفض الخدمة الموزعة التي نفذها جيش أوكرانيا الإلكتروني إلى تعطيل قدرة روسيا على العمل في بعض أنظمة إدارة علاقات العملاء فترات طويلة. وفي الفترة الممتدة من 26 شباط/فبراير إلى 30 تموز/يوليو أفادت وزارة التحول الرقمي بوقوع هجمات إلكترونية على أكثر من 6 آلاف مصدر ويب روسي، وكذا جرى استهدافها لموقع مجموعة فاغنر (Wagner) وسرقت بيانات شخصية لأخطر عملائها ومعلومات عن المرتزقة الذين جندوا حديثاً. أخيراً، تمكن جيش أوكرانيا الأوكراني من تنفيذ هجوم ناجح على منظمة الحرس الشاب (روسيا الموحدة)، كذلك اخترق موارد وحصل على بيانات مثيرة للاهتمام من هناك، وكانت هذه البيانات مهمة جداً وستساعد في الحرب على روسيا لكونها تخفي بين طياتها جرائم الحرب وإجراء "استفتاء الانفصال" لإقليم الدونباس (جنوب شرقي أوكرانيا) لضمه إلى روسيا الاتحادية، وهو إجراء في نظر الكثيرين غير قانوني. 

وأخيراً وليس آخراً، فإنه قد يسيء قول ذلك إلى المجتمع الإلكتروني، لكن الهجمات الإلكترونية مبالغ فيها. في حين أنها لا تقدر بثمن بالنسبة إلى عمليات التجسس، لكونها حاسمة في النزاع المستمر بين روسيا وأوكرانيا. إن الهجوم السيبراني المحض، غير كافٍ لإجبار أي خصم، فضلاً عن أكثر الخصوم هشاشة، على قبول الهزيمة.

 لم يقتل أحد من قبل في هجوم إلكتروني، لكن قد تكون الأضرار كارثية، لكن هذه الهجمات عادةً لا تخلق ميزة استراتيجية يمكن تعريفها بأنها إجبار الخصم على إجراء تغييرات أو تنازلات لم يكن ليحصل عليها بغير ذلك، إلا لو استخدمت على نطاق واسع وبطريقة مستدامة، غير منسقة ومتفرقة من خلال جهود متواصلة ومنهجية لإلحاق الضرر بقدرة الخصم على المقاومة.

حروب الجيل السادس وخطر النزاع بين الدول

مشاهير

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة